المهجر والوطن 9

المهجر والوطن 9

منظمات المجتمع المدني في المهجر

تاريخ مشرق وواقع مظلم

( 1 )

البشرى عبد الحميد*

Alboushra.com


مقدمة : -

مصطلح المجتمع مدني من المصطلحات الحديثة نسبياً، ويحتاج إلى تسليط الضوء عليه حتى لا يفهم بغير معناه كما هو الخال لدي بعضنا، فالمجتمع المدني تكوين إنساني سبق ظهور الدول، ومنذ أن وجد الإنسان نفسه مضطراً إلى العيش في مجموعات وفي ظل مصالح مشتركة . ومع التطور الإنساني وظهور الحضارات الحديثة بدات مؤسسات المجتمع تأخذ شكلها المقنن، وظهرت النخب المشكلة لمنظمات المجتمع المدني الحديثة التي بدأت تشكل وتحتكر تلك المؤسسات لتكون أدوات لصناعة الأحداث والسيطرة علي الحكومات.
ولا عجب أن أوكلت الأمر لغير أهله، ومن ثم ضمر تأثير الشعوب وتخافت دور المجتمع المدني ومؤسسات إلى مجرد صدى وصوت انتخابي يحمل النخب إلى مواقع السلطة والحكم . استمر هذا الحال لردح من الزمن إذ لم يكن ثمة دور يذكر للشعوب في صناعة تصحيح مسارها أو حتى في حماية مصالحها ناهيك عن الإسهام إيجاباً في إدارة البلاد.
إلا أن الأمر قد تطور باطّراد في اتجاه مخالف مع بداية الممارسة الديمقراطية، إذ شهدنا ميلاد الحركات الرافضة للواقع والقوى المجتمعية المؤثرة، التي تمدد تأثيرها وتبلور فيما يسمى اليوم بتنظيمات المجتمع المدني الحديثة ، التي أصبحت تجسد المفاهيم، وتتبنى الرؤى الاجتماعية، وتبلور الأفكار في إطار الأهداف والمصالح المشتركة للشعوب وللمجتمع الإنساني عموماً . لذا فإن بناء هذه المنظمات وتعزير دورها يجعلها ذات تاثير إيجابي تمكنها من تشكيل مجموعات الضغط، وإنشاء منابر الرأي العام التي أصبحت تؤثر في مسيرة الحكومات بشكل واضح، لدرجة انحناء تلك الحكومات أمام مد منطمات المجتمع المدني التي تهددها بالسقوط ما لم تستجب لمطالبها. لذا اقترنت هذه المنظمات بالممارسة الديمقراطية وتطورها وأصبحت تشكل المنظومة الأساسية التي تعمل من أجل بناء وتطوير وتعميق الممارسة الديمقراطية والمساهمة بشكل فعال في تشكيل السياسات واتجاهات الرأي العام، والمساهمة في عملية التحول الديمقراطي .
إن الأصل في تنظيمات المجتمع المدني أن تكون ذات استقلالية واضحة وتتمتع بحرية التنظيم والتعبير في ظل دستور وقوانين تحمي تنظيماتها وممارساتها، مع ضرورة إبعادها من سيطرة ووصاية الحكومات والسلطات الرسمية التي يجب ألا تتدخل في شؤونها أو طريقة تكوينها أو أسلوب أدائها إلا في اطار ضيق تتصل بمخالفة تلك المؤسسات للأطر القانونية.
ومؤسسات المجتمع المدني هي تنظيمات مستقلة يتم تأسيسها بواسطة مجموعة من الأشخاص تربط بينهم أهداف ومصالح مشتركة يعملون على تحقيقها في إطار القوانين السارية في الدولة، أو وفقاً لنظم ولوائح يتم الاتفاق عليها فيما بينهم يستمد منها التنظيم شرعيته، كما تضبط العلاقة بين أفرادها وتنظم إدارة المنظمة.
وتتعدد وتتنوع منظمات المجتمع المدني لتشمل الأحزاب السياسية والاتحادات المهنية (المحامين، الأطباء، المهندسين إلخ) والمنظمات الفئوية مثل المنظمات النسوية والشبابية والطلابية وغيرها، كما يدخل في ذات الإطار الجمعيات والروابط الخيرية والاجتماعية والثقافية والرياضية.

وتمتد مظلة مؤسسات المجتمع المدني لتشمل المؤسسات الربحية كالشركات والمؤسسات، وما يتصل بذلك من تنظيمات تعمل علي حماية مصالح تلك المجموعات مثل (الغرف التجارية، النقابات). ومع التطور الإنساني والتقني وثورة المعلومات ظهرت التنظيمات المدنية التي تتجاوز حدود الدول مثل جمعيات حقوق الإنسان وحماية البيئة وما شابههما، لذا فإن منظمات المجتمع المدني أصبحت تمثل القطاعات الحية المستقلة والمؤثرة داخل المجتمع، وتشكل أساساً متيناً لدعم الدولة الديمقراطية المدنية من خلال عملها في خدمة المجتمع، وتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وعلمية واجتماعية تساهم بشكل كبير في دعم وتطوير وبناء الدولة وتساهم في صياغة الخيارات الوطنية.
كما تقوم هذه المنظمات بأداء دور فعال كأجهزة ضغط ورقابة على السلطتين التشريعية والتنفيذية لكون أن معظم هذه التنظيمات تمثل جماعات المصالح والضغط التي تعمل لخلق رأي عام حول قضية معينة، بل تسعى للحصول على حقوق ومصالح تلك الجماعات بالضغط علي الحكومات، والعمل على إصدار أو إلغاء قرارات تحقق مصالحها. وتمارس تنظيمات المحتمع المدني شتى الطرق والوسائل المشروعة المنصوص عليها في القوانين العامة وفي نظامها الأساسي ولوائحها مثل رفع المذكرات والبرقيات والمظاهرات والاعتصامات وممارسة كل أنواع الضغط المدني لتحقيق أهدافها ومصالحها.
الشكل القانوني لمنظمات المجتمع المدني
تأخذ منظمات المجتمع المدني من حيث تكييفها الشكلي والقانوني أحد وضعين، إذ إن هناك تنظيمات يتم تكوينها وتسجيلها وفقاً للقانون أو المرسوم أو القرار الصادر عن السلطة التشريعية في الدولة المعنية يكتسب بموجبه التنظيم الشخصية القانونية الاعتبارية، وتمارس أنشطتها وفقا للقانون واللوائح المنظمة لذلك. أما النوع الآخر من تنظيمات المجتمع المدني، فهي تشمل التنظميات الأهلية التي تعمل في مجال الأنشطة الاجتماعية والثقافية والرياضية وغيرها، والتي اجتمع علي تكوينها مجموعة من الأشخاص في إطار مفاهيم أو مواثيق ونظم متفق عليها فيما بينهم ، ولا تحتاج إلى تسجيل لدى جهة رسمية، ويكون التنظيم بذلك محكوماً بالمواثيق والنظام الأساسي المتفق عليه، ومايتصل بذلك من لوائح وقواعد تحكم عمل المنظمة بوصف أن ذلك يشكل التعاقد الذي يجمع بين أفراد المنظمة، ويوضح حقوقهم وواجباتهم والتزاماتهم، ولا وجود لمثل هذه التنظيمات بمعزل عن أعضائها وهذا هو الحال بالنسبة إلى الجمعيات الخيرية وجمعيات القرى والمدن والروابط والاتحادات التي تعمل في المهجر في مختلف المجالات .

في هذا المقال سينصب حديثنا على الفئة الثانية من المنظمات لكونها المنظمات القائمة في المهجر التي يمارس من خلالها السودانيون أنشطتهم المدنية في المجالات المختلفة، وهم يقدمون من خلالها خدمات جليلة لأهلهم ولوطنهم، إلا أن تغول الحكومات الشمولية من خلال السفارات والأجهزة الامنية أدى إلى انتكاسة كبيرة في هذا المجال يجب الوقوف عندها والتفكير الجاد حول كيفية معالجتها.
المنظمات المدنية في المهجر
عرف السودانيون الهجرة لمختلف دول العالم منذ أقدم العصور إلا انها بدأت تأخذ شكلاً منتظماً بالنسبة لاهل الولاية الشمالية من نحو قرن من الزمان بدأت بالهجرة المنظمة لمصر في المرحلة الأولي وتفيد المعلومات بأن جمعية صاي إحدى أقدم الجمعيات السودانية في القاهرة، فقد تأسست عام 1925م بشارع قولة في حي عابدين، واليوم تقوم بدور مواز لدور دار السودان التي أتي تأسيسها بعد هذا التارخ بسنوات، إذ أصبحت ملتقى للسودانيين من كل أنحاء السودان، وهي اليوم تقوم مقام اتحاد سكوت الذي تأسس في عام 1954م، كما تأسست رابطة دنقلا الخيرية بشارع بستان 39 عابدين في مصر في العام 1937م برئاسة الشيخ أحمد نصر عبد الرحيم من أهالي مشو، حيث تم افتتاح الدار بواسطة النقراشي باشا رئيس وزراء مصر آنذاك . وجاءت مرحلة الهجرة التالية للمملكة العربية السعودية حيث قدم إليها في البداية نفر كريم من أبناء الولاية الشمالية فكانوا خير سفراء للوطن في وقت كان الوطن يرزخ تحت نير الاستعمار ليسبقوا بذلك قيام السفارات الرسمية، وليرسموا الصورة الحضارية للإنسان السوداني جعل المواطن السوداني يجد الاحترام والتقدير إلى يومنا هذا.
ويحكي العم أحمد عبد الله أحمد الشهير بالبربري أطال الله عمره وهو من المهاجرين الذين وصلوا الي المملكة العربية السعودية في العام 1954م ولما يبلغ من العمر الثانية عشر من العمر كيف أقام السودانيون البالغ عددهم في ذلك الوقت سبعة وعشرين شخصاً شكلوا النواة الأولى للجالية السودانية احتفالا باستقلال السودان، وزيارة الزعيم الأزهري للمملكة بميدان سمير اميس، وبحضور جلالة الملك سعود بن عبد العزيز عليهما رحمة الله.

ومع مرور الزمن وتزايد الهجرات برزت رموز أهلية وطنية أسست الجمعيات والجاليات فتم تأسيس أقدم الجاليات في مدينة جدة، ومع كثرة الخيرين من أبناء السودان المبادرين بذلك فقد عرف العم ساتي صالح بأنه مؤسس للجالية، وظل منزله في حي الهنداوية والبلد قبلة السودانيين ومقر إقامتهم،كما ظل مطعمه في شارع الدهب قبالة باب شريف تكية المهدي، حتي انتقل إلى جوار ربه في بداية التسعينيات من القرن الماضي.
ولا يمكن الحديث عن تأسيس الجاليات دون الوقوف أمام أحد قاماتها هو العم عثمان محمد إدريس توام ساتي صالح في الرياض وقد فتح منزله ودكانه في حي الغرابي بالبطحاء مستقبلاً مواطنيه ببشاشته المعهودة، ووهو يسعي لإلى توفير المأوى، ويقدم الخدمات القنصلية، بل يبحث للقادمين الجدد عن العمل.
والحديث عن الجاليات في المملكة يطول فلا ننس أهل مشو، إذ تشير المعلومات إلى وصول خضرتود وعلي ماشي في بداية العام 1918م وتبعهم الإخوان خليل وسعيد عبدالحفيظ، وصالح خاطي وتبلور وجود أهل مشو بشكل واضح بحضور آل القاضي وآل زيادة وآل باجوري وغيرهم، وما قاموا به من تأسيس للجمعيات في المدن الرئيسة بالمملكة.
ولم يكن الامر في قيام مثل هذه الجاليات مقتصراً علي المملكة، إذ تجدها في كل بلد يوجد فيه عدد من السودانيين أمثال من جاء ذكرهم هنا، ويذكر أهلنا بالخير صديق عبد الرحيم (صديقنا في القولد - انعم به من فاضل صديق) الذي عمل بالسفارة السودانية بالولايات المتحدة الأمريكية، وعلي منسي في ليفربول في انجلترا وحسن ارباب في سويسرا، اما جمهورية مصر العربية فانها تعج بالأندية النوبية وهناك من كل قرية رمز.
أردت هنا أن اقف عند بعض من أعرفهم أو سمعت عنهم من الرموز كأمثلة فقط، ولتوضيح دور الرعيل الأول في بناء الثقة في البلدان المضيفة والكيفية التي بدأت بها تكوين الجاليات لتتطور مع الزمن، وزيادة الهجرات حتي اتسع المجال لتكوين مؤسسات متنوعة شملت مجالات الأعمال الخيرية والإنسانية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والرياضية وغيرها.
ولدت هذه المؤسسات من رحم المجتمع السوداني الأصيل، وعلى أساس من الثقة والاحترام المتبادل بين أفرادها كمؤسسات أهلية وشعبية وقومية ودون تمييز علي أساس الانتماء السياسي أو غير ذلك من الانتماءات والمحاور الضيقة .
لقد قامت الجمعيات الخيرية للقرى بتقديم خدمات جليلة فشلت في تقديمها الحكومات، إذ يتولى اؤلئك النفر معاش أهلهم وبناء المدارس والمستشفيات وتوفير خدمات الكهرباء والمياه لعدد لا يستهان من القرى، إضافة إلى الاهتمام بالأعمال الإنسانية من مساعدة للفقراء والمساكين وتوفير العلاج لغير المقتدرين وهو نهج بحمد الله لم ينقطع، وإن لم تكن بصورتها السايقة نتيجة للظروف الاقتصادية في البلدان المضيفة وزيادة الأعباء العائلية على منسوبي تلك الجمعيات .
أما بالنسبة إلى المنظمات الأخرى التي تعمل في مجالات الثقافة والإعلام والرياضة فقد بدا التأثير السلبي علي اعمالها مع تغول السياسة علي أنشطتها والذي ظهر مع بداية العهد المايوي ليأخذ التدخل شكله السافر والمقنن في عهد حكومة الإنقاذ بالتدخل المباشر للسفارات وموظفيها في شؤون الجمعيات والجاليات في محاولة لتدجينها، وفي الحالات التي فشلت فيها عملت علي قيام كيانات موازية لخدمة الأغراض السياسية وليفقد الوطن مؤسسات شعبية كان يعول عليها الكثير في خدمة المواطنين وتنمية الوطن.
وسنتناول في المقال القادم الكيفية التي تغولت بها السفارات علي مؤسسات المجتمع المدني الاهلي والمخرج الممكن من هذ المأزق لتعود تلك المؤسسات معافاة لاداء دورها الوطني .



*مستشار قانوني وكاتب

جريدة الخرطزم العدد رقم 7690 بتاريخ 29 مايو 2011 م الموافق 26 جمادي الثانية 1432 ه

المصدر: منتديات الملوك

---

hgli[v ,hg,'k 9